فصل: قال الجصاص:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} الموسع من أوسع إذا صار ذا سعة، والمقتر من أقتر إذا صار ذا قَتر وهو ضيق العيش، والقدر بسكون الدال وبفتحها ما به تعيين ذات الشيء أو حاله، فيطلق على ما يساوي الشيء من الأجرام، ويطلق على ما يساويه في القيمة، والمراد به هنا الحال التي يقدر بها المرء في مراتب الناس في الثروة، وهو الطبقة من القوم، والطاقة من المال، وقرأه الجمهور بسكون الدال، وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر بفتح الدال. اهـ.

.قال الفخر:

قوله تعالى: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} يدل على أن تقدير المتعة مفوض إلى الاجتهاد، ولأنها كالنفقة التي أوجبها الله تعالى للزوجات، وبين أن الموسع يخالف المقتر وقال الشافعي: المستحب على الموسع خادم، وعلى المتوسط ثلاثون درهمًا، وعلى المقتر مقنعة، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أكثر المتعة خادم وأقلها مقنعة، وأي قدر أدى جاز في جانبي الكثرة والقلة، وقال أبو حنيفة المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل، قال: لأن حال المرأة التي يسمى لها المهر أحسن من حال التي لم يسم لها، ثم لما لم يجب لها زيادة على نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول، فلأن لا يجب زيادة على نصف مهر المثل أولى والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

اختلفوا في الضمير المتصل بقوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ} مَنْ المراد به مِن النساء؟ فقال ابن عباس وابن عمر وجابر بن زيد والحسن والشافعي وأحمد وعطاء وإسحاق وأصحاب الرأي: المُتْعَة واجبةٌ للمطلِّقة قبل البِناء والفرض، ومندوبة في حق غيرها. وقال مالك وأصحابه: المتعة مندوب إليها في كل مطلقة وإن دُخل بها، إلاّ في التي لم يُدخل بها وقد فُرِض لها فحسْبُها ما فُرض لها ولا مُتْعة لها. وقال أبو ثور: لها المُتْعَة ولكل مطلَّقة. وأجمع أهل العلم على أن التي لم يُفرض لها ولم يُدخل بها لا شيء لها غيرُ المتعة. قال الزُّهْري: يقضي لها بها القاضي. وقال جمهور الناس: لا يقضي بها لها.
قلت: هذا الإجماع إنما هو في الحرّة، فأما الأمة إذا طلقت قبل الفرض والمسِيس فالجمهور على أن لها المُتْعَةَ. وقال الأُوزاعيّ والثوريّ: لا متعة لها لأنها تكون لسيدها وهو لا يستحق مالًا في مقابلة تأذِّي مملوكته بالطلاق. وأما ربط مذهب مالك فقال ابن شعبان: المتعة بإزاء غمّ الطلاق، ولذلك ليس للمخْتَلِعة والمبارِئة والمُلاعنة متعةٌ قبل البناء ولا بعده، لأنها هي التي اختارت الطلاق. وقال الترمذيّ وعطاء والنخعيّ: للمختلعة متعة. وقال أصحاب الرأي: للملاعنة متعة. قال ابن القاسم: ولا متعة في نكاح مفسوخ. قال ابن الموّاز: ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد؛ مثل مِلك أحد الزوجين صاحبه. قال ابن القاسم: وأصل ذلك قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف} [البقرة: 241] فكان هذا الحكم مختصًا بالطلاق دون الفسخ. وروى ابن وهب عن مالك أن المخيَّرة لها المتعة بخلاف الأمَة تعتِق تحت العبد فتختار هي نفسها، فهذه لا متعة لها. وأما الحرّة تُخَير أو تملك أو يتزوّج عليها أمة فتختار هي نفسها في ذلك كله فلها المتعة؛ لأن الزوج سبب للفراق.
الثامنة: قال مالك: ليس للمتعة عندنا حدّ معروف في قليلها ولا كثيرها. وقد اختلف الناس في هذا؛ فقال ابن عمر: أدنى ما يجزئ في المتعة ثلاثون درهمًا أو شبهها. وقال ابن عباس: أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة. عطاء: أوسطها الدرع والخِمار والمِلحفة. أبو حنيفة: ذلك أدناها. وقال ابن مَحيْريز: على صاحب الديوان ثلاثة دنانير، وعلى العبد المتعة. وقال الحسن: يُمَتِّع كل بقدره، هذا بخادم وهذا بأثواب وهذا بثوب وهذا بنفقة؛ وكذلك يقول مالك بن أنس، وهو مقتضى القرآن فإن الله سبحانه لم يقدّرها ولا حدّدها وإنما قال: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ}. ومتع الحسن ابن عليّ بعشرين ألفًا وزِقاق من عسل. ومتع شريح بخمسمائة درهم. وقد قيل: إن حالة المرأة مُعتَبَرة أيضًا؛ قاله بعض الشافعية، قالوا: لو اعتبرنا حال الرجل وحده لزم منه أنه لو تزوّج امرأتين إحداهما شريفة والأُخرى دَنيّة ثم طلقهما قبل المَسِيس ولم يُسمّ لهما أن يكونا متساويتين في المتعة فيجب للدّنية ما يجب للشريفة وهذا خلاف ما قال الله تعالى: {مَتَاعًا بالمعروف} ويلزم منه أن الموسر العظيم اليسار إذا تزوّج امرأة دنية أن يكون مثلها؛ لأنه إذا طلَّقها قبل الدخول والفَرْض لزمته المتعة على قدر حاله ومهر مثلها؛ فتكون المتعة على هذا أضعاف مهر مِثلها؛ فتكون قد استحقّت قبل الدخول أضعاف ما تستحقه بعد الدخول من مهر الْمِثْل الذي فيه غاية الابتذال وهو الوطء.
وقال أصحاب الرأي وغيرهم: مُتْعَة التي تطلَّق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير؛ لأن مهر المثل مستَحَقٌّ بالعقد، والمتعة هي بعض مهر المثل؛ فيجب لها كما يجب نصف المسمَّى إذا طلَّق قبل الدخول، وهذا يرده قوله تعالى: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} وهذا دليل على رفض التحديد؛ والله بحقائق الأُمور عليم. وقد ذكر الثعلبيّ حديثًا قال: نزلت {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النساء} الآية، في رجل من الأنصار تزوّج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها مهرًا ثم طلقها قبل أن يمسَّها فنزلت الآية؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «متِّعْها ولو بقَلَنْسُوَتك» وروى الدارقطنيّ عن سُويد بن غَفَلة قال: كانت عائشة الخثْعَمية عند الحسن بن علي بن أبي طالب فلما أُصيب عَليٌّ وبويع الحسن بالخلافة قالت: لِتَهْنِكَ الخلافةُ يا أمير المؤمنين! فقال: يُقتل عَليٌّ وتُظهرين الشماتة! اذهبي فأنت طالق ثلاثًا. قال: فَتَلفّعت بسَاجِها وقعدت حتى انقضت عدّتها؛ فبعث إليها بعشرة الاف متعةً، وبقيةِ ما بقي لها من صداقها. فقالت:
مَتاعٌ قليلٌ من حَبِيب مُفارِقِ

فلما بلغه قولُها بكى وقال: لولا أني سمعت جدّي أو حدثني أبي أنه سمع جدّي يقول: أيّما رجل طلّق امرأته ثلاثًا مبهمة أو ثلاثًا عند الأَقْرَاء لم تحل له حتى تنكح زوجًا غيره لراجعتها. وفي رواية: أخبره الرسول فبكى وقال: لولا أني أَبَنْت الطلاق لها لراجعتها، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيّما رجل طلّق امرأته ثلاثًا عند كل طهر تطليقةً أو عند رأس كل شهر تطليقةً أو طلقها ثلاثًا جميعًا لم تَحِل له حتى تنكح زوجًا غيره». اهـ.

.قال الطبري:

والصواب من القول في ذلك ما قال ابن عباس ومن قال بقوله: من أن الواجب من ذلك للمرأة المطلقة على الرجل على قدر عسره ويسره، كما قال الله تعالى ذكره: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}، لا على قدر المرأة.
ولو كان ذلك واجبا للمرأة على قدر صداق مثلها إلى قدر نصفه، لم يكن لقيله تعالى ذكره: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}، معنى مفهوم ولكان الكلام: ومتعوهن على قدرهن وقدر نصف صداق أمثالهن.
وفي إعلام الله تعالى ذكره عباده أن ذلك على قدر الرجل في عسره ويسره، لا على قدرها وقدر نصف صداق مثلها، ما يبين عن صحة ما قلنا، وفساد ما خالفه. وذلك أن المرأة قد يكون صداق مثها المال العظيم، والرجل في حال طلاقه إياها مقتر لا يملك شيئا، فإن قضي عليه بقدر نصف صداق مثلها، ألزم ما يعجز عنه بعض من قد وسع عليه، فكيف المقدور عليه؟ وإذا فعل ذلك به، كان الحاكم بذلك عليه قد تعدى حكم قول الله تعالى ذكره: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}- ولكن ذلك على قدر عسر الرجل ويسره، لا يجاوز بذلك خادم أو قيمتها، إن كان الزوج موسعا. وإن كان مقترا، فأطاق أدنى ما يكون كسوه لها، وذلك ثلاثة أثواب ونحو ذلك، قضي عليه بذلك. وإن كان عاجزا عن ذلك، فعلى قدر طاقته. وذلك على قدر اجتهاد الإمام العادل عند الخصومة إليه فيه. اهـ.

.قال الجصاص:

ذِكْرُ تَقْدِيرِ الْمُتْعَةِ الْوَاجِبَةِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} وَإِثْبَاتُ الْمِقْدَارِ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِهِ فِي الْإِعْسَارِ وَالْيَسَارِ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبُ الظَّنِّ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ فِي الْأَزْمَانِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي مِقْدَارِهَا شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: اعْتِبَارُهَا بِيَسَارِ الرَّجُلِ وَإِعْسَارِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ ذَلِكَ؛ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي ذَلِكَ.
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ الْمَعْرُوفُ مِنْهُمَا مَوْقُوفًا عَلَى عَادَاتِ النَّاسِ فِيهَا وَالْعَادَاتُ قَدْ تَخْتَلِفُ وَتَتَغَيَّرُ، وَجَبَ بِذَلِكَ مُرَاعَاةُ الْعَادَاتِ فِي الْأَزْمَانِ وَذَلِكَ أَصْلٌ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ؛ إذْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مُؤَدِّيًا إلَى اجْتِهَادٍ رَأَيْنَا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: يَجِبُ مَعَ ذَلِكَ اعْتِبَارُ حَالِ الْمَرْأَةِ أَيْضًا وَذَكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ فِي كِتَابِهِ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْحُكْمَ فِي تَقْدِيرِ الْمُتْعَةِ بِشَيْئَيْنِ: حَالِ الرَّجُلِ بِيَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ.
قَالَ: فَلَوْ اعْتَبَرْنَا حَالَ الرَّجُلِ وَحْدَهُ عَارِيًّا مِنْ اعْتِبَارِ حَالِ الْمَرْأَةِ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ إحْدَاهُمَا شَرِيفَةٌ وَالْأُخْرَى دَنِيَّةٌ مَوْلَاةٌ ثُمَّ طَلَّقَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُسَمِّ لَهُمَا أَنْ تَكُونَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْمُتْعَةِ، فَتَجِبُ لِهَذِهِ الدَّنِيَّةِ كَمَا تَجِبُ لِهَذِهِ الشَّرِيفَةِ؛ وَهَذَا مُنْكَرٌ فِي عَادَاتِ النَّاسِ وَأَخْلَاقِهِمْ غَيْرُ مَعْرُوفٍ.
قَالَ: وَيَفْسُدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَوْلُ مَنْ اعْتَبَرَ حَالَ الرَّجُلِ وَحْدَهُ دُونَهَا، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ رَجُلًا مُوسِرًا عَظِيمَ الشَّأْنِ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً دَنِيَّةً مَهْرُ مِثْلِهَا دِينَارٌ، أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ بِهَا وَجَبَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ إذْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا شَيْئًا دِينَارٌ وَاحِدٌ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَزِمَتْهُ الْمُتْعَةُ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَهْرِ مِثْلِهَا، فَتَسْتَحِقُّ قَبْلَ الدُّخُولِ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَكْثَرَ مِمَّا تَسْتَحِقُّهُ بَعْدَ الدُّخُولِ.
وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ لِلْمُطْلَقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفَ مَا أَوْجَبَهُ لَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ، فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ بِاعْتِبَارِ حَالِ الرَّجُلِ دُونَهَا يُؤَدِّي إلَى مُخَالَفَةِ مَعْنَى.
الْكِتَابِ وَدَلَالَتِهِ وَإِلَى خِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي الْعَادَاتِ سَقَطَ وَوَجَبَ اعْتِبَارُ حَالِهَا مَعَهُ.
وَيَفْسُدُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ رَجُلَانِ مُوسِرَانِ أُخْتَيْنِ فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا: بِامْرَأَتِهِ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، إذْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا؛ وَطَلَّقَ الْآخَرُ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ أَنْ تَكُونَ الْمُتْعَةُ لَهَا عَلَى قَدْرِ حَالِ الرَّجُلِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَهْرِ أُخْتِهَا فَيَكُونُ مَا تَأْخُذُهُ الْمَدْخُولُ بِهَا أَقَلَّ مِمَّا تَأْخُذُهُ الْمُطَلَّقَةُ، وَقِيمَةُ الْبُضْعَيْنِ وَاحِدَةٌ وَهُمَا مُتَسَاوِيَتَانِ فِي الْمَهْرِ، فَيَكُونُ الدُّخُولُ مُدْخِلًا عَلَيْهَا ضَرَرًا وَنُقْصَانًا فِي الْبَدَلِ؛ وَهَذَا مُنْكَرٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ.
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ الْمَرْأَةِ مَعَهُ.
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا وَكَانَتْ مُتْعَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا أَنَّهَا لَا تُجَاوِزُ بِهَا نِصْفَ مَهْرِ مِثْلِهَا فَيَكُونُ لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنْ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ الْمُسَمَّى.
لَهَا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ التَّسْمِيَةِ مَعَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُعْطِيَهَا عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ وَلَمَّا كَانَ الْمُسَمَّى مَعَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَلَمْ تَسْتَحِقَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، فَفِي مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْلَى.
وَلَمْ يُقَدِّرْ أَصْحَابُنَا لَهَا مِقْدَارًا مَعْلُومًا لَا يَتَجَاوَزُ بِهِ وَلَا يَقْصُرُ عَنْهُ، وَقَالُوا: هِيَ عَلَى قَدْرِ الْمُعْتَادِ الْمُتَعَارَفِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَإِزَارٌ، وَالْإِزَارُ هُوَ الَّذِي تَسْتَتِرُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ عِنْدَ الْخُرُوجِ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ السَّلَفِ فِي مِقْدَارِهَا أَقَاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى حَسَبِ مَا غَلَبَ فِي رَأْيِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
ثم قال رحمه الله: وَهَذِهِ الْمَقَادِيرُ كُلُّهَا صَدَرَتْ عَنْ اجْتِهَادِ آرَائِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا عِنْدَهُمْ مَوْضُوعَةٌ عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ تَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأَرْوَشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَقَادِيرُ مَعْلُومَةٌ فِي النُّصُوصِ. اهـ.
قال الجصاص:
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا خَصَّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ بِالذِّكْرِ فِي إيجَابِ الْمُتْعَةِ عَلَيْهِمْ، دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَأَنَّهَا نَدْبٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَاتِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمُتَّقُونَ وَالْمُحْسِنُونَ وَغَيْرُهُمْ.
قِيلَ لَهُ: إنَّمَا ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ تَأْكِيدًا لِوُجُوبِهَا، وَلَيْسَ تَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ نَفْيًا لِإِيجَابِهَا عَلَى غَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وَهُوَ هُدًى لِلنَّاسِ كَافَّةً، وقَوْله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} فَلَمْ يَكُنْ قَوْله تَعَالَى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} مُوجِبًا؛ لَأَنْ لَا يَكُونَ هُدًى لِغَيْرِهِمْ؛ كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} و{حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} غَيْرُ نَافٍ أَنْ يَكُونَ حَقًّا عَلَى غَيْرِهِمْ.
وَأَيْضًا فَإِنَّا نُوجِبُهَا عَلَى الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ بِالْآيَةِ وَنُوجِبُهَا عَلَى غَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَوْجَبَهَا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ أَوْجَبَهَا عَلَى غَيْرِهِمْ.
وَيَلْزَمُ هَذَا السَّائِلَ أَنْ لَا يَجْعَلَهَا نَدْبًا أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَا كَانَ نَدْبًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُتَّقُونَ وَغَيْرُهُمْ، فَإِذَا جَازَ تَخْصِيصُ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ بِالذِّكْرِ فِي الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ مِنْ الْمُتْعَةِ وَهُمْ وَغَيْرُهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ، فَكَذَلِكَ جَائِزٌ تَخْصِيصُ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ فِي الْإِيجَابِ وَيَكُونُونَ هُمْ وَغَيْرُهُمْ فِيهِ سَوَاءً. اهـ.